للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمر وعلله البعض لسبق القضاء عليهم بالكفر. واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده، وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وتعقب ذلك الشهاب قائلا: إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول. ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه، وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي، وتحقيقه كما قيل: إن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: ١٣] انتهى. وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول: إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد، وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها، فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة. ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى، ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلا وإن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر. ومنه يتضح معنى

قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا

ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلا، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثّرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية. كما يقوله الجبرية، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير، وليس غرضنا هنا سوى

<<  <  ج: ص:  >  >>