دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي، ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء، وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر. ومن الناس من قال: يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى، والحق ما تقدم.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عز وجل، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلّى الله عليه وسلّم كما يلوح من كلام الإمام، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم، وقيل: المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب.
وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلّم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية. ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمنزل، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في مُنَزَّلٌ أي متلبسا بالحق. وقرأ غالب السبعة «منزل» بالتخفيف من الإنزال.
والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق، وليس إشارة إلى المغنين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي المترددين في أنهم يعملون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة، فالفاء لترتيب النهي على الاخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلّى الله عليه وسلّم عن الامتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤، يونس: ١٠٥، القصص: ٨٧] ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة: ١٢] والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عز وجل بكونه منزلا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به، وتمام الشيء- كما قال الراغب- انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه. والمراد بالكلمة الكلام وأريد به- كما قال قتادة وغيره- القرآن، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر. وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم. وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [التوبة: ٤٠] .