للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه، وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: ٢٢] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن (١) الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل:

ويظهر في البلاد ضياء نور

وقال العباس رضي الله تعالى عنه:

وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق

ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ١٥] والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: ٤٨] وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم:

وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم

وكذا وجه وصف الصلاة- الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم- بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل (٢) واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: ٥] وعلى هذا يكون التعبير بيذهب الله بنورهم دون ذهب الله بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا، وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه

«الصبر ضياء»

ومعلوم أنه كاسمه: والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه

«الصلاة نور»

ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير

«وجعلت قرة عيني في الصلاة» «وأرحنا يا بلال»

واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما

ورد «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره»

وقول الشاعر:


(١) قوله: إلى أن الباء هكذا بخط المؤلف اهـ مصححه.
(٢) قوله: كذا قيل إلى قوله: فتدبر هذا ليس موجودا في خط المؤلف بل في المبيضة فقط التي ليست بخطه اهـ مصححه.

<<  <  ج: ص:  >  >>