بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرع أشمط
والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع- فالله نور السماوات والأرض ولله المثل الأعلى- وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون- أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء- مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ [المائدة: ١٥] فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة- لو قال هنا ذهب الله بضوئهم- بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة- فلما ضاءت- ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني- أذهب الله نورهم- وفيها تأييد لمذهب سيبويه.
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ عطف على قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد لا يُبْصِرُونَ وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه- والترك- في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا. ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف- والكل هنا محتمل- فعلى الأولى «هم» مفعوله الأول، وفي ظلمات مفعوله الثاني، ولا يُبْصِرُونَ صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من «هم» ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا، ولا يُبْصِرُونَ مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني «هم» مفعوله، وفِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول من المفعول. والثاني من الضمير فيه أو فِي ظُلُماتٍ متعلق ب تَرَكَهُمْ ولا يُبْصِرُونَ حال. والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: ١] والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة، وعن الثاني بالمنع أيضا فإنّ الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة