نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال: كان الرسل يرسلون إلى الانس حتى بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى الانس والجن قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
التي أوحيتها إليهم، والحج ملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين يُنْذِرُونَكُمْ
أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع قاءَ يَوْمِكُمْ هذا
أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينواالُوا
استئناف بياني، والمقصود منه حكاية قولهم: كيف يقولون وكيف يعترفون هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أي بإيتاء الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب، وقوله سبحانه: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجأهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم السلام واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه شَهِدُوا
في الآخرةلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
في الدنياافِرِينَ
بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه.
ذلِكَ إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ
أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك، وجوز أن يكون أَنْ لَمْ إلخ بدلا من اسم الإشارة، وقوله تعالى: بِظُلْمٍ متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من رَبُّكَ أو من ضميره في مُهْلِكَ، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يأباه قوله تعالى: وَأَهْلُها غافِلُونَ لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره.
واعترض شيخ الإسلام على جعل بِظُلْمٍ حالا من رَبُّكَ أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه، واختار قدس سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال:
والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده.
ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد: إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم