للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع، وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا. والمعتزلة يقولون: يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة وَلِكُلٍّ من المكلفين جنا كانوا أو إنسا دَرَجاتٌ أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبا مِمَّا عَمِلُوا أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب.

وقرأ ابن عامر «تعملون» بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول يَعْمَلُونَ بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أي لا غنى عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من اللطف الجزيل، والكلام مبتدأ وخبر. وقوله سبحانه: ذُو الرَّحْمَةِ خبر آخر، وجوز أن يكون هو الخبر والْغَنِيُّ صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء، وفي ذلك تنبيه على أن ما تقدم ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالإهلاك، وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي وينشىء من بعد إذهابكم ما يَشاءُ من الخلق، وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم، وما في كَما مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشىء إنشاء كإنشائكم أو يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم، ومِنْ لابتداء الغاية، وقيل: هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة إِنَّ ما تُوعَدُونَ أي إن الذي توعدونه من القيامة، والحساب، والعقاب، والثواب، وتفاوت الدرجات والدركات، وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي، وما اسم أن ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه: لَآتٍ يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء، وهو خبر أن، والمراد أن ذلك لواقع لا محالة، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه، وله نظائر في الكتاب الكريم.

قُلْ يا قَوْمِ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلا أثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار. اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ

<<  <  ج: ص:  >  >>