بعد الكور صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء، وأفعل الوصفين سواء تقابلا- كأحمر وحمراء- أم انفردا لمانع في الخلقة- كغرل ورتق- فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء- كرجل أليّ، وامرأة عجزاء- فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه بقولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى- وهو داء في اللسان يمنع من الكلام- وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق- وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس- وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله:
أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
وأصمّ عما كان بينهما ... أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما، وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صُمٌّ إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال- ولعله أولى- إن- هم- المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صُمٌّ على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صُمٌّ إلخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجة إذ قد علم من قوله سبحانه لا يَشْعُرُونَ ولا يُبْصِرُونَ أنهم صُمٌّ عُمْيٌ ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم- كالبكم- ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يَرْجِعُونَ وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر- العمى- لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط- حل بين العصا ولحائها ولو قدم- ولأهم تعلقه ب لا يُبْصِرُونَ أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر. ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: ١٤٢] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: ١٩٦] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى