ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم.
فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة- مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم- أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب إلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله تعالى عليه وسلم
بقوله:«وإن لكل شيء ملكا» حتى قال: «إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك» وقال: «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب- في بيان الرعد- هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق- في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا- الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكّة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير ما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: ٤] .
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: يَجْعَلُونَ إلخ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب بتأويل نحو- لا يطيقونه- أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكّرها والتأنيث أجود، وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه «أحدها» نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل «وثانيها» من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود «ثالثها» في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة مع أن