الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما فيه وتذكرهم له وهو كما ترى. وقرأ السلمي ادّارسوا بتشديد الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل.
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الله تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل هؤلاء أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المقيم، وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق الآخذين لعرض هذا الأدنى وفي الالتفات تشديد للتوبيخ، وقيل: هو خطاب للمؤمنين ولا التفات فيه.
وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص. وهذه الآية ظاهرة في التوبيخ على الأخذ، وجعل بعضهم قوله سبحانه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ إلخ توبيخا على ذلك القول في الآية ما هو من قبيل ما فيه اللف والنشر وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال:
مسك بالشيء وتمسك به بمعنى، قال مجاهد. وابن زيد: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن، وقرأ أبو بكر. وحماد «يمسكون» بالتخفيف من الإمساك، وابن مسعود «استمسكوا» ، وأبي «مسكوا» وفي ذلك موافقة لقوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة، وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لا ناقتها عليها لأنها عماد الدين، ومحل الموصول إما الجر عطفا على الذين يتقون، وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ اعتراض مقرر لما قبله، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيها على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لصلاحهم.
وقيل: الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون، وقوله سبحانه: إِنَّا لا نُضِيعُ إلخ حينئذ اعتراض مقرر لما قبله وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ عطف على ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس. وإليه ذهب ابن الأعرابي، وعن مسلم أنه الجذب، ومنه نتقت الغرب من البئر، وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله سبحانه: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء: ١٥٤] وعلى القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان، والمراد بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخا في فرسخ كمعسكر القوم فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله ورفعه عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي غمامة أو سقيفة وفسرت بذلك مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخوله وجه و «فوق» ظرف لنتقنا أو حال من الجبل مخصصة على ما قيل للرفع ببعض جهات العلو، والجملة الاسمية بعد في موضع الحال أيضا أي مشابها ذلك وَظَنُّوا أي تيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا فانهم كانوا يوعدون بذلك بهذا الشرط والصادق لا يتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول واقعا لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذا سمي ذلك ظنا.