فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها، ومن هنا يقال: أشأم من البسوس اسم لذلك الرجل، وليس بشيء، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظام القرآن الكريم كما لا يخفى، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره.
وعن الحسن وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلّى الله عليه وسلّم إيمانا صحيحا، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله، وفيه مخالفات للروايات المشهورة، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم: إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه السلام، وكأنه قيل: واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه، وضمير لَرَفَعْناهُ للذي وضمير بِها للآيات، والباء سببيه، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها، وقيل: الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات، فالرفع من قولهم: رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن مجاهد، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي. والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي ركن إلى الدنيا ومال إليها، وبذلك فسره السدي وابن جبير وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسر به، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوية لملاذها وما يطلب منها.
وقال الراغب: المعنى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين: على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه كما قال أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية أبلغ من التصريح، وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا
قال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك.
والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى إلى التأويل، فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون لَوْ شِئْنا باقيا على حقيقته وأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد، ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ، وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه