فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، وقيل: لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه فيكون ما ذكر كناية عن جميع البدن، ويبقى عليه نكتة الاقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست وتكلف لها بعضهم بأن الكانز وقت الكنز لحذره من أن يطلع عليه أحد يلتفت يمينا وشمالا وأماما ووراء ولا يكاد ينظر إلى فوق أو يتخيل أن أحدا يطلع عليه من تحت، فلما كانت تلك الجهات الأربع مطمح نظره ومظنة حذره دون الجهتين الأخريين اقتصر عليها دونهما، وهو مع ابتنائه على اعتبار الدفن في الكنز في حيز المنع كما لا يخفى.
وقيل: إنما خصت هذه المواضع لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وفيه أن البطن كذلك، وفي جمعه مع الظاهر لطافة أيضا، وقيل: لأن الجهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود لأن الداعي للكانز على الكنز وعدم الإنفاق خوف الفقر الذي هو الموت الأحمر حيث إنه سبب للكد وعرق الجبين والاضطراب يمينا وشمالا وعدم استقرار الجنب لتحصيل المعاش مع خلو المتصف به عما يستند إليه ويعول في المهمات عليه فلملاحظة الأمن من الكد وعرق الجبين تكوى جبهته ولملاحظة الأمن من الاضطراب والطمع في استقرار الجنب يكوى جنبه لملاحظة استناد الظهر والاتكال على ما يزعم أنه الركن الأقوى والوزر الأوقى يكوى ظهره، وقيل غير ذلك وهي أقوال يشبه بعضها بعضا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وأيا ما كان فليس المراد أنه يوضع دينار على دينار أو درهم على درهم فيكوى بها ولا أنه يكون بكل بأن يرفع واحد ويوضع بدله آخر حتى يؤتى على آخرها بل إنه يوسع جلد الكانز فيوضع كل دينار ودرهم على حدته كما نطقت بذلك الآثار وتظافرت به الأخبار هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول وبه يتعلق الظرف السابق في قول أي يقال لهم يوم يحمى عليها هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ أي لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها، فاللام للتعليل، وأنت في تقرير المضاف في النظم بالخيار، ولم تجعل اللام للملك لعدم جدواه وما في قوله سبحانه فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يحتمل أن تكون مصدرية أي وبال كنزكم أو وبال كونكم كانزين ورجح الأول بأن في كون كان الناقصة لها مصدر كلاما وبأن المقصود الخبر وكان إنما ذكرت لاستحضار الصورة الماضية، ويحتمل أن تكون موصولة أي وبال الذي تكنزونه، وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية أو تبعية. وقرىء «تكنزون» بضم النون فالماضي كنز كضرب وقعد إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي مبلغ عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وهي الشهور القمرية المعلومة إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ.
وقيل: فيما أثبته وأوجب على عباده الأخذ به، وقيل: القرآن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وليس بشيء يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي في ابتداء إيجاد هذا العالم، وهذا الظرف متعلق بما في كتاب الله من معنى الثبوت الدال عليه بمنطوقه أو بمتعلقه أو بالكتاب إن كان مصدرا بمعنى الكتابة، والمراد أنه في ابتداء ذلك كانت عدتها ما ذكر وهي الآن على ما كانت عليه، وفِي كِتابِ اللَّهِ صفة اثْنا عَشَرَ وهي خبر إِنَّ وعِنْدَ معمول عِدَّةَ لأنها مصدر كالشركة وشَهْراً تمييز مؤكد كما في قولك: عندي من الدنانير عشرون دينارا، وما يقال: إنه لرفع الإبهام إذ لو قيل عدة الشهور عند الله اثنا عشر سنة لكان كلاما مستقيما ليس بمستقيم على ما قيل.
وانتصر له بأن مراد القائل إنه يحتمل أن تكون تلك الشهور في ابتداء الدنيا كذلك كما في قوله سبحانه: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [الحج: ٤٧] ونحوه لا مانع منه فإنه أحسن من الزيادة المحضة، ولم يجوزوا تعلق فِي كِتابِ بعدة لأن المصدر إذا أخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر. ومن الناس من جعله بدلا من عِنْدَ اللَّهِ وضعفه