من الضمير المجرور إن اعتبر في الظرف ابتداء الاستقرار وحدوثه وأنه اعتبر مطلق الاستقرار فالأمر واضح ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أي الذل والهوان المقارن للفضيحة، ولا يخفى ما في الحمل من المبالغة، والجملة تذييل لما سبق يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ أي من أن تنزل. ويجوز أن يكون يحذر متعديا بنفسه كما يدل عليه ما أنشد سيبويه من قوله:
حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار
وأنكر المبرد كونه متعديا لأن الحذر من هيئات النفس كالفزع، والبيت قيل: إنه مصنوع، ورد ما قاله المبرد بأن من الهيئات ما يتعدى كخاف وخشي فما ذكره غير لازم عَلَيْهِمْ أي في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم، وهذا إنما يحتاج إليه إذا كان الجار والمجرور متعلقا بتنزل، وأما إذا كان متعلقا بمقدور وقع صفة لقوله سبحانه:
سُورَةٌ كما قيل أي تنزل سورة كائنة عليهم من قولهم: هذا لك وهذا عليك فلا كما لا يخفى إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والظاهر تعلق الجار بما عنده، وصفة سورة بقوله تعالى شأنه: تُنَبِّئُهُمْ أي المنافقين بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم خاصة من أقاويل الكفر والنفاق، والمراد أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فينتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنها تخبرهم بها وإلا فما في قلوبهم معلوم لهم والمحذور عندهم إطلاع المؤمنين عليه لهم، وقيل: المراد تخبرهم بما في قلوبهم على وجه يكون المقصود منه لازم فائدة الخبر وهو علم الرسول عليه الصلاة والسلام به، وقيل: المراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم، وجوز أن يكون الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين، وتفكيك الضمائر ليس بممنوع مطلقا بل هو جائز عند قوة القرينة وظهور الدلالة عليه كما هنا، أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشي أسرارهم، وفي الأخبار عنهم بأنهم يحذرون ذلك إشعار بأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أبو مسلم: كان إظهار الحذر بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به لقوله سبحانه: قُلِ اسْتَهْزِؤُا فإنه يدل على أنه وقع منهم استهزاء بهذه المقالة. والأمر للتهديد والقائلون بما تقدم قالوا: المراد نافقوا لأن المنافق مستهزىء وكما جعل قولهم: آمنا وما هم بمؤمنين مخادعة في البقرة جعل هنا استهزاء، وقيل: إن يَحْذَرُ خبر في معنى الأمر أي ليحذر. وتعقب بأن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ينبو عنه نبوة إلا أن يراد ما يحذرون بموجب هذا الأمر وهو خلاف الظاهر، وكان الظاهر أن يقول: إن الله منزل سورة كذلك أو منزل ما تحذرون لكن عدل منه إلى ما في النظم الكريم للمبالغة إذ معناه مبرز ما تحذرونه من إنزال السورة، أو لأنه أعم إذ المراد مظهر كل ما تحذرون ظهوره من القبائح، وإسناد الإخراج إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه سبحانه يخرجه إخراجا لا مزيد عليه، والتأكيد لدفع التردد أو رد الإنكار وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عما قالوه لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال:«بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوته إلى تبوك إذ نظر إلى أناس بين يديه من المنافقين يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك فقال: احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال صلّى الله عليه وسلّم:
قلتم كذا وكذا قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب. فنزلت»
وأخرج ابن جرير وابن مردويه وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل القرآن، قال