والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلّى الله عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة والسلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود، ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم، والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن، وحينئذ التفاوت في معرفة الصفات وهي كما قيل إما سلبية وتسمى بصفات الجلال لأنها يقال فيها: جل عن كذا جل عن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلى وصفه بصفات الإكرام، والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى،
وقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة كما في صحيح مسلم:«يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا»
يؤيد بظاهره ذلك، والمراد بالبكرة والعشية- كما قال النووي- قدرهما، وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة على الثانية لتقدم التخلية على التحلية، ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١] والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذ لا يبعد أن يكون الترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال: إنهم حين يشرعون بالدعاء يسبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهو دعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لاستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلا مانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا: إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجه إلى طلبها، وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين. وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشيا كما يشير إليه خبر الصحيح، ولعل عدم ذكر التحميد فيه اكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما اشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا: الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
وهو ظاهر في أن الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي أيضا لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء، ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلبا لما يشتهون حينئذ أنه علامة للطلب، ونظير ذلك تسبيح المصلي إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون.
وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا أنهم إذا قالوا ذلك أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك. نعم في كون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خفاء.
وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضا ظاهر في كون الترتيب الذكرى كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة آخِرُ إلى دَعْواهُمْ يأباه، وكأن وجه الآباء على ما قيل: إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن اعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر، ولعل الأمر في ذلك سهل.