للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر وَقالَ فِرْعَوْنُ أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ الإلزام بالفعل بعد اليأس عن الإلزام بالقول ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بفنون السحر حاذق ماهر فيه. وقرأ حمزة والكسائي «سحار» فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم للأمر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: ٦٠] أي فأتوا به فلما جاؤوا قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنا ما كان من أصناف السحر، وأصل الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف اسما لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكي عنهم في السور الأخر من قولهم: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف: ١١٥] ونحو ذلك ولم يكن في ابتداء مجيئهم، وما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والإشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا من العصي والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم قالَ لهم مُوسى غير مكترث بهم بما صنعوا ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما موصولة وقعت مبتدأ والسِّحْرُ خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحرا وهو للجنس، ونقل عن الفراء أن أل للعهد لتقدم السحر في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتا كما في أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: ١٥، ١٦] ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة. ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعيا أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ [مريم:

٣٣] إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتا، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدا والثاني عمرا مثلا أن يقال: إن أل للعهد لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر. إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي، والسَّلامُ فيما نقلوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك.

وقد ذكر بعض المحققين أن القول بكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس. نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصر وإن كان كلامهم يخالفه ظاهرا فليحرر انتهى.

وأقول: دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولعله أراد الجنس وإن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلا عن ابن عصفور أنه قال: لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم لمعرفة. وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك. وقرأ عبد الله «سحر» بالتنكير، وأبيّ «ما أتيتم به سحر» والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضا، لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>