للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قومهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يبتليهم ويعذبهم، وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] ويسمى ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختبار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا، و «أن» وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته، ويجوز أن يكون مفعول خَوْفٍ لأنه مصدر منكر كثر إعماله، وقيل: إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف، ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضي وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف، وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه.

وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب قاهر في أرض مصر، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى وَقالَ مُوسى لما رأى تخوف المؤمنين يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضي له وعلق نفس التوكل ووجود بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط، ونظير ذلك- إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه- فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة، وحاصله إن كنتم آمنتم بالله فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى.

وهذا النوع على ما في الكشف يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو- إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي- وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضي لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه، وقرره بأن هاهنا ثلاثة أشياء: الإيمان، والتوكل، والإسلام، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل: إن كنتم مصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل.

ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وإن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرا فَقالُوا مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين، قيل: ولذا أجيب دعاؤهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم، ولذا عبر عنهم بالكفر بعد ما

<<  <  ج: ص:  >  >>