إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وغيره، فالجار والمجرور متعلق بِتارِكِي.
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف، ومنه قوله:
ما أمسى الزمان حاجا إلى من ... يتولى الإيراد والإصدارا
أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون: لا يصدر إلا عن رأيه، والمعنى هنا حينئذ ما نحن بِتارِكِي آلِهَتِنا عاملين بقولك، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام، وقيل: إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين عَنْ قَوْلِكَ ويكون هذا جوابا لقوله: لا تَتَوَلَّوْا وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة عَنْ وجعله كناية كما علمت، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر، ويندرج فيه ذلك، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام، ثم قالوا مؤكدين لذلك وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك من عراه يعروه، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أرادوا به- قاتلهم الله تعالى- الجنون، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل: للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبىء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها، وقيل: للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل، وذكر البعض تعظيما لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ، وأصله أن نقول قولا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه، أو اعْتَراكَ هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد إِلَّا وليس مما استثنى فيه الجملة، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ وغرضهم من هذا على ما قيل: بيان سبب ما صدر عن هود عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه السلام، وقيل: هو مقرر لما مر من قولهم: وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ وَما نَحْنُ لَكَ إلخ فإن اعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا- وحاشاه عن ذلك- يوجب عدم الاعتداد بقوله، وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه؟ ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيّء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام: بقولهم: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى.
وللبحث فيه مجال، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست