واجب أو جائز؟ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟.
وقرأ أبي والأشهب وعيسى بن عمر- فصبرا جميلا- بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلّا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السّلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال:
صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا،
والصبر الجميل على ما روى الحسن عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم- ما لا شكوى فيه
أي إلى الخلق وإلّا فقد قال يعقوب عليه السّلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف:
٨٦] ، وقيل: إنه عليه السّلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال يا رب خطيئة فاغفرها.
وقيل: المراد من قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إني أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السّلام للاستعانة المستمرة عَلى ما تَصِفُونَ متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: ١٨] بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السّلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة يوسف عليه السّلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يوسف: ٨٣] بعد قوله فيما بعد: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد أنه تعالى المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السّلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جلّ وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يجري مجرى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السّلام التفتيش والسعي في تخليص يوسف عليه السّلام من البلية والشدة إن كان حيا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: ٦] فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضا إنه عليه السّلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السّلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلّا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلّا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله