للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه، وتمام الكلام في محله ما هذا بَشَراً نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ أي شريف كثير المحاسن بناء على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب:

فلست لأنسى ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب

وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب، ومنه قوله:

ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن، ويعلم مما قرر ان الآية لا تقوم دليلا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي، واتباعه، وأيده الفخر- ولا فجر له- بما أيده، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمي به على أكمل وجه، وافتتحوا ذلك- بحاشا لله- على ما هو الشائع في مثل ذلك، ففي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدؤوا تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يضيمه فيكون آكد وأبلغ، والمنصور ما أشير إليه أولا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف: ٥١] وما عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطلق النفي بناء على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي، والمستقبل، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى إن النحويين لم يجدوا شاهدا على النصب في أشعارهم غير قوله:

وأنا النذير بحرة مسودة ... تصل الجيوش إليكم قوادها

أبناؤها متكنفون أباهم ... حنقوا الصدور وما هم أولادها

والزمخشري يسمي هذه اللغة: اللغة القدمى الحجازية، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع، وعلى هذا جاء قوله:

ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحب حرام

وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا، وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي ما هذا بشرى- بالباء الجارة، وكسر الشين على أن شرى- كما قال صاحب اللوائح- مصدر أقيم مقام المفعول به (١) أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشترى بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك.

وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك، وروى الكسر بن عطية عن الحسن، وأبي الحويرث أيضا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا «ملك» بكسر اللام فقال:

لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشترى لئيم (٢) ، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة


(١) وجوز إبقاءه على المصدرية أي لم يحصل هذا بشرى اهـ منه.
(٢) والأولى أن يقال: أي ما هذا عبد لئيم فيملك بل سيد كريم ما لك فتدبر اهـ منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>