ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب، والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها. وفي إرشاد العقل السليم حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيها عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه وهو لا يخلو عن شيء، والأولى على ما قيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه، وعطف قوله سبحانه: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وكذا ما بعده على ذلك على ما نص عليه غير واحد من باب عطف الخاص على العام، والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقا وهو أولى، ومعنى إقامتها إتمام أركانها وهيئاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعض ما أعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي ندب سِرًّا حيث يحسن السر كما في إنفاق من لا يعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من الأخذ ظاهرا وَعَلانِيَةً حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ما ذكر، وقال بعضهم: إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني بأداء الواجب، وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سرا وإلا فالأولى أداؤها علانية، وقيل: السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الإمام والأولى الحمل على العموم، ولعلّ تقديم السر للإشارة إلى فضل صدقته، وجاء في الصحيح عد المتصدق سرا من الذين يظلمهم الله تعالى في ظله يوم القيامة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وعن ابن جبير يردون معروفا على من يسيء إليهم فهو كقوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا وقيل: يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها.
وفي الحديث أن معاذا قال: أوصني يا رسول الله قال: «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية»
وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرة الذنب. وقيل: بلا إله إلا الله شركهم، وقيل: بالصدقة العذاب. وقيل: إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره، وقيل وقيل، ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة:
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم
وقال في الكشف: الأظهر التعميم أي يدرؤون بالجميل السيء سواء كان لأذاهم أو لا مخصوصا بهم أو لا طاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال، وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة أُولئِكَ أي المنعتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة، وليس المراد بهم أناسا بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة- على ما قيل- في الأنصار، واسم الإشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قوله سبحانه: لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة، فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى:«والعاقبة للمتقين» وفسرها الزمخشري أيضا بالجنة إلا أنه قال: لأنها التي أراد الله تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها، وفيه على ما قيل شائبة اعتزال.