بظاهر اللفظ وبين ذلك الطيبي قائلا: إن التعريف في الْمُجْرِمِينَ للعهد، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم المذكورون بعد أن مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي في ذلك وقد خلت سنة الأولين، والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اه. وفيه غفلة عن مغزى الزمخشري، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى دره حيث قال: أراد أن موقع قَدْ خَلَتْ إلى آخره موقع الغاية في الشعراء أعني قوله تعالى هنالك: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: ٨٨، ٩٧، الشعراء: ٢٠١] . فإنهم لما شبهوا بهم قيل: لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافا إلى ما أضيف إليه ينبئ عن ذلك أشد الإنباء، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه، وقد صرح أيضا بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد، ثم ما ذهب إليه الزمخشري من المراد بالسنة مروي عن قتادة. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه أنه قال في الآية: قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم. وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين المعاندين باباً مِنَ السَّماءِ ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل: فَظَلُّوا فِيهِ أي في ذلك الباب يَعْرُجُونَ يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده- ظلوا- لأنه يقال ظل يعمل كذا وإذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه، وأيّا ما كان فضمير الجمع للمقترحين، وهو الظاهر المروي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم، وأخرج ابن جريج عن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروي ذلك عن قتادة أيضا أي فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه. وقرأ الأعمش. وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود لَقالُوا لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدت ومنعت من الإبصار حقيقة وما نراه تخيل لا حقيقة له، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، وروي أيضا عن ابن عباس. وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان: بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد: السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء:
غناؤنا فيه ألحان السكور إذا ... قل الغناء ورنات النواعير
ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد «سكرت أبصارنا» بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضم ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر:
والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في إحساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على