هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري «سكرة» بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف فيه فتح الكاف.
واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ويقال: ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى. وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب إنهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلاف ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرا فأورد عليه بأن إِنَّما تفيد الحصر في المذكور آخرا وحينئذ يكون المعنى ما تقدم وهو مبني على أن تقديم المقصود على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في شرح التخليص إنه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا: إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب:
صفاته لم تزده معرفة ... لكنها لذة ذكرناها
أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه. نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك: إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مطردا وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لا نفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك: إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وإن لم يذكر احتمل الوجوب طردا للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى والاتصال نظرا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيا اه فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وإن لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقول ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي. وأبو حيان مع طائفة يسيرة من النحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا: إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. ووجه الشهاب الإضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه إضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن مستمرون عليها في كل ما يرينا من الآيات، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر ابن المنير في المراد منها وجها بعيدا جدا فيما أرى فقال: المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الإعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى- وهم في مهلة وإمكان- أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير