من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماها. وقيل: المراد بالأحسن النفل، وكان أحسن لأنه لم يحتم بل يأتي الإنسان به مختارا غير ملزم، وإذا علمت المجازاة على النفل الذي هو أحسن علمت المجازاة على الفرض الذي هو حسن، ولا يخفى أنه ليس بحسن أصلا مَنْ عَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل كان، وهذا- كما قيل- شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم الأجر الموفور بهم وبعملهم، وقوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى دفع لتوهم تخصيص مَنْ بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ مَنْ فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعا على الأصح، واستدل عليه بما
رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه» وقول أم سلمة: «فكيف تصنع النساء بذيولهن» الحديث
فإن أم سلمة رضي الله تعالى عنها فهمت دخول النساء في مَنْ وأقرها على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال: من دخل داري فهو حر فدخلها الإماء عتقن، وبعضهم يستدل على ذلك أيضا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعا لما صح أن يبين بالنوعين. وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث إن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين اه، والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب، وتمام الكلام في ذلك في كتاب الأصول، وقوله تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ في موضع الحال من فاعل عَمِلَ وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق الثواب إجماعا، واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها.
فقال بعضهم: لا يترتب أيضا لقوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ [النحل: ٨٥] وقوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣] .
وقال الإمام: إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره» وحديث أبي طالب أنه أخف الناس عذابا بالمحبة وحمايته النبي صلى الله عليه وسلم. وفي البحر أن قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] مخصص بهذه الآية ونحوها أو يراد- بمثقال ذرة- مثقال ذرة من إيمان كما جاء فيمن يخرج من النار من عصاة المؤمنين، وقال الكرماني: إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ليس جزاء لعمله بل هو لرجاء غيره أو هو من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: الإيمان شرط لترتب التخفيف على الأعمال الصالحة إذا كانت مما يتوقف صحتها على النية التي لا تصح من كافر وليس شرطا للترتب عليها إذا لم تكن كذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة وجوب دوام الإيمان ومقارنته للعمل الصالح في ترتب قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً إلخ، والمراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال:
ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وروي نحوه عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد، ولله تعالى در من قال:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادكار الموت والهرم
وقال شريك: هي حياة تكون في البرزخ فقد جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» .
وقال غير واحد: هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحبها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى له وقدره، فقد أخرج البيهقي في الشعب. والحاكم وصححه وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسرها بذلك
وقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير»
وجاء القناعة مال لا ينفد.