نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه، فالمراد بعهد الله تعالى ما يعم ما تقدم وغيره ولا يخفى حسنه إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ أي ما أخباه وادخره لكم في الدنيا والآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك الثمن القليل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز، فالفعل منزل منزلة اللازم، وقى: متعد والمفعول محذوف وهو فضل ما بين العوضين والأول أبلغ ومستغن عن التقدير، وفي التعبير بإن ما لا يخفى، والجملة تعليل للنهي على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى: ما عِنْدَكُمْ إلخ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها جميعا يَنْفَدُ ينقضي ويفنى وإن جم عدده وطال مدده، يقال: نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادا ونفودا إذا ذهب وفني، وأما نفذ بالذال المعجمة فبفتح العين ومضارعه ينفذ بضمها وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية باقٍ لا نفاد له أما الأخروية فظاهر، وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سلك الباقيات الصالحات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المراد بما عند الله في الموضعين الثواب الأخروي واختاره بعض الأئمة، وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى. ورد بالآية على جهم بن صفوان حيث زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ بنون العظمة وهي قراءة عاصم. وابن كثير على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم تكرير للوعد المستفاد من قوله سبحانه:
إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات على العهد. وقرأ باقي السبعة بالياء فلا التفات.
والعدول عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال: ولنجزينكم- بالنون أو بالياء- أجركم بأحسن ما كنتم تعلمون للتوسل إلى التعرض لاعمالهم والاشعار بعليتها للجزاء أي والله لنجزين الَّذِينَ صَبَرُوا على العهد أو على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود وإن وعد المعاهدون على نقضها بما وعدوا أَجْرَهُمْ مفعول لَنَجْزِيَنَّ أي نعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصبر فإنه من الأعمال القلبية، والكلام على حذف مضاف أي لنجزينهم بجزاء صبرهم، وكان الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه فهو رأسها قاله أبو حيان. وفي إرشاد العقل السليم إنما أضيف الأحسن إلى مذاكر للإشعار بكمال حسنه كما في قوله: وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: ١٤٨] لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى: «أجرهم» فالإضافة للترغيب.
وجوز أن يكون المعنى لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم أي لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالحسن والأحسن بالأحسن، وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل، وأن يكون أحسن صفة جزاء محذوفا والإضافة على معنى من التفضيلية أي لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم، وكونه أحسن لمضاعفته، وقيل: المراد بالأحسن ما ترجح فعله على تركه كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا (١) كالمحرمات والمكروهات والحسن ما لم يترجح فعله ولا تركه وهو لا يثاب عليه. وتعقبة في الإرشاد بأنه لا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم من مدارية الجزاء
(١) في أصل المصنف سقط لفظ «تركه» وزدناه من تفسير أبي السعود لأنه منقول عنه.