وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الاتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منهيا عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى:
فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الحق بَعْدَ ثُبُوتِها عليها ورسوخها فيها بالإيمان، وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل: لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين.
وقال أبو حيان: لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك. ورد بأن قيد المنهي عنه فليس إخبارا صرفا ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى: فَتَزِلَّ إلخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل، ونصب- تزل- بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه، قال في البحر: وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر، وتوحيد القدم وتنكيرها- كما قال الزمخشري- للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام، وقال أبو حيان: إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: ٣١] فأفرد المتكأ لما لوحظ في لَهُنَّ كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله:
فإني وجدت الضامرين متاعهم ... يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي كل ضامر، ولذا أفرد الضمير في يموت ويفنى، ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء فَتَزِلَّ قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال سبحانه وَتَذُوقُوا السُّوءَ مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا: إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد قَدَمٌ وجمع الضمير في وَتَذُوقُوا. وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للأفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة، والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في تَذُوقُوا من الاستعارة بِما صَدَدْتُمْ بسبب صدودكم وإعراضكم أو صد غيركم ومنعه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل.
وجعل هذه بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى وَلَكُمْ في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المراد به عند كثير بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان والاشتراء مجاز عن الاستبدال لمكان قوله تعالى: ثَمَناً قَلِيلًا فإن الثمن مشتري به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا، قال الزمخشري: كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد إن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا، وقال ابن عطية: هذا