من شدة اتصاله بالرد الأول مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ أي بكلمة الكفر مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ به تعالى. وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات الله تعالى بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا ومَنْ موصولة محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة «فعليهم غضب» الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام، وجوز أيضا الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت، ومَنْ لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه. نعم قال أبو حيان: إن النصب على الذم بعيد. وأجاز الحوفي والزمخشري كونها بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وقوله تعالى:
وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراض بينهما. واعترضه أبو حيان. وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقا وهم أكثر المفترين. وأيضا البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون. ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى:«من بعد إيمانه» من بعد تمكنه منه كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: ١٦] وذكر أن فيه ترشيحا لطريق الاستدراج وتحسيرا لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء وفيه كما في الكشف أن قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ لا يساعد عليه، وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه.
وقال المدقق: الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تغييرا على الارتداد أيضا وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منه الافتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة، ولا يخفى ما فيه أيضا وأنه غير ملائم لسبب النزول، وقال الخفاجي: لك أن تقول: الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال: إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقبله العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يهديهم إلى الحق فالله تعالى لما لم يهدهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذبا وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة، فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحا والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى، ولعمري إنه نهاية في التكلف، ومثل هذا الابدال الابدال من أُولئِكَ والابدال من الْكاذِبُونَ وقد جوزهما الزمخشري أيضا وجوز الحوفي الأخير أيضا ولم يجوز الزجاج غيره.
وجوز غير واحد كون مَنْ شرطية مرفوعة المحل على الابتداء واستظهره في البحر والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول، والكلام في خبر من الشرطية مشهور، وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الابدال وهو عندي غريب منه. وفي الكشف أن كون مَنْ شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار الله على إيثار كون مَنْ بدلا طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم، ولا يخفى ما في هذا العذر من الوهن، والظاهر أن استثناء مَنْ أُكْرِهَ أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه- من كفر- استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الاعتقاد أولا.
قال الراغب: يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد، فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور، وقيل: مستثنى من الخبر الجواب المقدر، وقيل: مستثنى مقدم من قوله تعالى فَعَلَيْهِمْ