للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَضَبٌ

وليس بذاك، والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ حال من المستثنى، والعالم- كما في إرشاد العقل السليم- هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعا وإنما المجدي مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفر والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وأصل معنى الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه، وإنما لم يصرح بذلك العامل إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة.

واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركنا فيه كما قيل. واعترض بأن من جعله ركنا لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلا بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكراه والعجز فتأمل.

وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي اعتقده وطاب به نفسا وصَدْراً على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح صدر غيره، ونصبه- كما قال الإمام- على أنه مفعول به- لشرح- وجوز بعضهم كونه على التمييز، ومَنْ إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية- قال أبو حيان- لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية، والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم ومثله قوله: ولكن متى يسترفد القوم أرفد. أي ولكن أنا متى تسترفد إلخ. وتعقب بأنه تقدير غير لازم، وقوله تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ جواب الشرط على تقدير شرطية مَنْ وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور، وجعله بعضهم خبرا لمن هذه ولمن الأولى للاتحاد في المعنى إذ المراد- بمن كفر- الصنف الشارح بالكفر صدرا. وتعقبه في البحر بأن هاهنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب.

وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: ٩١] وقوله سبحانه: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: ٨٩] جواب- لأما- ولأن هذا وهما أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى، ويبعد بهذا عندي جعله خبرا لهما على تقدير الموصولة والاستدراك من الإكراه على ما قيل ووجه بأن قوله تعالى:

إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ يوهم أن المكره مطلقا مستثنى مما تقدم، وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر، وقيل: المراد مجرد التأكيد كما في نحو ذلك: لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجئ. وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدا، وتنوين غَضَبٌ للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن مِنَ اللَّهِ جل جلاله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب ما فيه، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الافراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ.

روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: مالك ان عادوا فعد لهم بما قلت، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد

<<  <  ج: ص:  >  >>