والظاهر ما أشرنا إليه، وكذا جعل الجملة حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن، وقيل كان ذلك في يوم غيم، ويبعده كان فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ، وقول ابن مسعود: ما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم: ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل.
وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الأسفار، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو الذي يفيده حديث الترمذي وغيره والله تعالى أعلم، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد.
وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل:
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ حيث لم يقل سبحانه إنه كانَ مَشْهُوداً
أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في تفسير ذلك: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار،
وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال:«قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر
ثم قال أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» .
والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت، وكذا تلتقي الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.
وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.
وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة، وقيل من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا المراد من قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله: وهذا هو المراد، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.