أصحاب الحيل بمعونة الآلات المركبة على النسبة الهندسية تارة، وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى، وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أو يريه صاحب خفة اليد- فتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا عند البعض، وصرح النووي في الروضة بحرمته، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيث يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وغير ذلك من آيات الرسل عليهم السلام، والمعتزلة، وأبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له، وإنما هو تخييل، وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك انسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفى، ومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة باقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني: لا يروى خلاف في ذلك، وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منه، وفيه بحث: أما أولا فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لا يمترى في كفر فاعله، وأما ثانيا فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر، وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب، ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في المدارك، ولعله إلى الأصول أقرب، والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقرّ بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل، واحتج بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها، وإنكار عثمان رضي الله تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه. وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر، والشافعية نظروا في هذا الاحتجاج واعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم
يقتل اليهودي الذي سحره، فالمؤمن مثله
لقوله عليه السلام:«لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
وتحقيقه في الفروع، واختلف في تعليمه وتعلمه فقيل: كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية، وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر، وقيل:
إنهما حرامان- وبه قطع الجمهور- وقيل: مكروهان- وإليه ذهب البعض- وقيل: مباحان، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال، وإليه مال الإمام الرازي قائلا: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:
٩] ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص انتهى. والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي، وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر «أما أولا» فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه من باب سد الذرائع- وكم من أمر حرم لذلك-