«وأما ثانيا» فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم- إلا النادر- عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر- وكفى فارقا بينهما ما تقدم، ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل، أو أنه أخل به كما أخلوا «وأما ثالثا» فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح، لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه- على ما ذكره العلامة ابن حجر- إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر. وإلا فلا- هذا وقد أطلق بعض العلماء السِّحْرَ على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذاب لما فيه من الاستمالة، ويسمى سحرا حلالا، ومنه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«إن من البيان لسحرا»
والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد- وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث- وظاهر قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ إلخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم، وقيل: يدلونهم على تلك الكتب، فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب، وقيل:
المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع، وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك- والإطلاق عليه هو الإطلاق- وقيل: يُعَلِّمُونَ بمعنى يُعَلِّمُونَ من الإعلام وهو الإخبار، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه السِّحْرَ وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو «لكنّ» بالتشديد. وابن عامر وحمزة والكسائي- بالتخفيف وارتفاع ما بعدها بالابتداء والخبر- وهل يجوز إعمالها إذا خففت؟ فيه خلاف، والجمع على المنع- وهو الصحيح- وعن يونس والأخفش الجواز، والصحيح أنها بسيطة «ومنهم» من زعم أنها مركبة من «لا» النافية- وكاف الخطاب- «وأن» المؤكدة المحذوفة الهمزة للاستثقال، وهو إلى الفساد أقرب وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المراد الجنس، وهو عطف على السِّحْرَ وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت، وفائدة العطف التنصيص بأنهم- يعلمون- ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا عَلَى الْمَلَكَيْنِ للابتلاء، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين، وقد يراد بالموصول المعهود- وهو نوع آخر أقوى- فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله، وقال مجاهد: هو دون السِّحْرَ وهو- ما يفرّق به بين المرء وزوجه- لا غير والمشهور الأول، وجوز العطف على ما تَتْلُوا فكأنه قيل: اتبعوا السحر المدوّن في الكتب وغيره، وهذان الملكان أنزلا لتعليم السِّحْرَ ابتلاء من الله تعالى للناس، فمن تعلم وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث إنه كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق، قيل: كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام، وأما ما
روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به، وقالوا له تعالى: لو كنا مكانهم ما عصيناك، فقال: اختاروا ملكين منكم، فاختاروهما، فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين، وألقى الله تعالى عليهما الشبق، وحكما بين الناس، فافتتنا بامرأة يقال لها زهرة، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما، أو يشربا خمرا، أو يقتلا نفسا ففعلا، ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء، فصعدت ومسخت هذا- النجم- وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة- فاختارا عذاب الدنيا- فهما الآن يعذبان فيها،
إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء- لا سقيم ولا صحيح- عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس- وذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء، ولم يصح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة، ولا ابن عمر رضي الله تعالى