فخشينا أن يدنس إيمانهما أولا ويزيله آخرا، ويلتزم على هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس وفسر بعض شراح البخاري الخشية بالعلم فقال: أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما ويقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه، واستدل بذلك من قال: إنه كان بالغا، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السّلام أجاب به موسى عليه السّلام من جهته، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عز وجل والمراد فكر هنا بجعل الخشية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل، قال في الكشف: وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السّلام منه تعالى والخضر عليه السّلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى، وقيل: هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله: خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا، وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت.
وقال ابن عطية: إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زَكاةً قال ابن عباس: أي دينا وهو تفسير باللازم والكثير قالوا: أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة، قال رؤبة ابن العجاج:
يا منزل الرحم على إدريسا ... ومنزل اللعن على إبليسا
وهما مصدران كالكثر والكثرة، والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام، ولعل المراد على هذا أنه أحب إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا، وقال الثعلبي: إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى الله تعالى على يده أمة من الأمم، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين،
وفي رواية أخرى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا
، واستبعد هذا ابن عطية وقال: لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السّلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل: أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل، ولا يخفى ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل: فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق.
وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة. وتعقب بأنه كان زكيا طاهرا