في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي. وتعقب هذا بأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة، ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السّلام في ذبح ابنه بالرؤيا وهي دون الإلهام، وفيه أن رؤيا الأنبياء عليهم السّلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله، والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر.
وقال علي بن عيسى: المعنى قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه يا ذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان، وقريب منه دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك ونسبه الله تعالى إليه مجازا، والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي على نبوة الخضر عليه السّلام، وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها، ولعل الأولى في تأويلها أن يقال: كان القول بواسطة نبي.
قالَ ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد أن تلقى أمره تعالى مختارا للشق الأخير من شقي التخيير حسبما أرشد إليه أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل، والظاهر أنه كان بالسيف، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان عذابه أن يجعلهم في بقر من صفر ثم يوقد تحتهم النار حتى يتقطعوا فيها وهو بعيد عن الصحة، وأتى بنون العظمة على عادة الملوك، وإسناد التعذيب إليه لأنه السبب الآمر، ودعوى صدور ذلك منه بالذات في غاية البعد، وقيل: أراد من الضمير الله تعالى ونفسه والإسناد باعتبار الخلق والكسب وهو أيضا بعيد مع ما فيه من تشريك الله تعالى مع غيره في الضمير وفيه من الخلاف ما علمت ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فظيعا وهو العذاب في نار جهنم، ونصب عَذاباً على أنه مصدر يعذبه، وقيل: تنازع فيه هو ونعذبه والمراد بالعذاب النكر نظرا إلى الأول ما روي عن السدي وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وفي قوله إِلى رَبِّهِ دون إليك دلالة على أن الخطاب السابق لم يكن بطريق الوحي إليه وإن مقاولته كانت مع النبي أو مع خواصه وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بموجب دعوتي وَعَمِلَ عملا صالِحاً حسبما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو الجنة جزاء على أن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أي يجزى بها جزاء، والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو هو حال أي مجزيا بها، وتعقب ذلك أبو الحسن بأنه لا تكاد العرب تتكلم بالحال مقدما إلا في الشعر، وقال الفراء: هو نصب على التمييز.
وقرأ ابن عباس ومسروق «جزاء» منصوبا غير منون، وخرج ذلك المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وخرجه غيره على أنه حذف للإضافة والمبتدأ محذوف لدلالة المعنى عليه أي فله الجزاء جزاء الحسنى.
وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق بالرفع والتنوين على أنه المبتدأ والْحُسْنى بدله والخبر الجار والمجرور.
وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع بلا تنوين، وخرج على أنه مبتدأ مضاف، قال أبو علي: والمراد على الإضافة جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو المراد بالحسنى الجنة والإضافة كما في دار الآخرة.
وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي مما نأمر به يُسْراً أي سهلا ميسرا غير شاق، وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصدر مبالغة، وقرأ أبو جعفر «يسرا» بضمتين حيث وقع هذا، وقال الطبري: المراد من اتخاذ الحسن الأسر فيكون قد خير بين القتل والأسر، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر، وما حكي من الجواب