تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] الآية نزل في استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة والسّلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الإيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلّى الله عليه وسلّم وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسّلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.
وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السّلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا:
أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله:«واغفر لأبي» لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] ثم قال: ولقائل أن يقول: الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع فأما قضية العقل فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السّلام «لأستغفرن» لك في آية «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم» إلخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الإيمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره «وعدها أباه» بالباء الموحدة قال في الكشف: واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السّلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لورود السمع.
واعترض صاحب التقريب بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت فيه الأسوة بدل عما وجبت إلخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسي به فيه لكان أسوة قبيحة، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب: ٢١] كما تقرر في الأصول.
والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السّلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا» إلخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا بعد ما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل إنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل: إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير.
واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السّلام بعد ما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلّى الله عليه وسلّم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسّلام فعله لعمه أبي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسّلام، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للإيمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلا مما لا مساغ له عقلا ونقلا، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين،