وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالإيمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز وجل، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل.
واستدل على جواز ذلك عقلا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمه «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه»
فنزل قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] الآية، وحمل قوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: ١١٣] على معنى من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ١١٦] بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسّلام لوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلّى الله عليه وسلّم، وقيل غير ذلك فتأمل، فالمقام محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق.
إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه، والجملة تعليل لمضمون ما قبلها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام وَأَعْتَزِلُكُمْ الظاهر أنه عطف على سَأَسْتَغْفِرُ والمراد أتباعد عنك وعن قومك وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي.
يروى أنه عليه السّلام هاجر إلى الشام، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا. وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولا لأن ذلك أوفق بقول أبيه أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي مع قوله فيما سبق يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
[مريم: ٤٢] إلخ، وعبر ثانيا بالدعاء لأنه أظهر في الإقبال المقابل للاعتزال.
وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقا أو ما حكاه سبحانه في سورة [الشعراء: ٨٣] وهو قوله رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:
١٠٠] حسبما يساعده السياق والسباق عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم. وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة إلى ما تقدم وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة. والمشهور أن أول ما وهب له عليه السّلام من الأولاد إسماعيل عليه السّلام لقوله تعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: ١٠١] إثر دعائه بقوله «رب هب لي من الصالحين» وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحاق عليه السّلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السّلام.