الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عز وجل هو المؤثر الحقيقي، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة.
وقيل: بِهِ أي عنده وإليه ذهب الأشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه ليس فيه قوة الري مثلا والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس. وزعموا أن من قال: إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وهو لعمري من المجازفة بمكان.
والظاهر أن يقال: فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم. ويقوي هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه.
واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء.
وقال الخفاجي: لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ [الفرقان: ٤٩] ولعل هذا أقرب انتهى.
وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ. وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فاطر: ٢٧] وقوله تعالى أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النمل: ٦٠] وقوله سبحانه وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ٩٩] أَزْواجاً أي أصنافا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض.
مِنْ نَباتٍ بيان وصفة لأزواجا. وكذا قوله تعالى شَتَّى أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرضى وألفه للتأنيث، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
وقالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. وقوله تعالى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ معمول قول محذوف وقع حالا من ضمير «فأخرجنا» أي أخرجنا أصناف النبات قائلين كُلُوا إلخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك، وجوز أن يكون القول حالا من المفعول أي أخرجنا أزواجا مختلفة مقولا فيها ذلك. والأولى أنسب وأولى. ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازما ومتعديا، يقال: رعت الدابة رعيا ورعاها صاحبها رعاية إذا أسامها وسرحها وأراحها إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من شؤونه تعالى. وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال، وقيل: لعدم ذكر المشار إليه بلفظه. والتنكير في قوله سبحانه لَآياتٍ للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته لِأُولِي النُّهى جمع نهية بضم النون سمي بها العقل لنهيه عن