النمط فارجع إليه إن أردته وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي كأنه عليه السّلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار. ولذا ترى كثيرا من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية في شرح الأسرار الإلهية، وقيل: إنه عليه السّلام سأل حل عقدة الحياء فإنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا. ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به إرشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به إرشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: ١- ٤] من غير توسيط عاطف.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة
،
وقال رضي الله تعالى عنه: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه
،
وقال رضي الله تعالى عنه: المرء بأصغريه قلبه ولسانه،
وقال زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
وفي نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك. والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية، فالحق ما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم
بقوله:«رحم الله تعالى امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم»
. وذكر في وجه عدم طلبه عليه السّلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسّلام، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك وفيه إشارة إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوي القرابة.
ومن منع المستوجبين فقد ظلم وفي تقديم موسى عليه السّلام مع أنه أصغر سنا على هارون عليه السّلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء «إنك كنت بنا بصيرا» في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى، وهو من أحسن الوسائل عند الله عز وجل. ومن آثار ذلك استجابة الدعاء وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى تذكير له عليه السّلام بما يزيد إيقانه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يرد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان، ومن هنا قيل: إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع الا من الطريق وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء فلبثت سنين في أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السّلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقا بأخلاقهم متحليا بآدابهم صالحا للحضرة. ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السّلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك إثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا: وصاحبه معذور وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون. وأهل الغيرة بالله تعالى