بعدها في محل الرافع على الفاعلية، وقوله سبحانه: أَهْلَكْناها في محل جر أو رفع صفة قرية، والمراد أهلكناها بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات، وقيل القرية مجاز عن أهلها فلا حاجة إلى تقدير المضاف.
واعترض بأن أَهْلَكْناها يأباه والاستخدام وإن كثر في الكلام خلاف الظاهر، وقال بعضهم: لك أن تقول إن هلاكها كناية عن إهلاك أهلها وما ذكر أولا أولى، والهمزة في قوله سبحانه: أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لإنكار الوقوع والفاء للعطف أما على مقدر دخلته الهمزة فأفادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم يؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات هم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوه أي مع أنهم أعتى وأطغى كما يفهم بمعونة السياق والعدول عن فهم لا يؤمنون أيضا وأما على ما آمَنَتْ على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الاعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم على عدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة، وقوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا جواب لما زعموه من أن الرسول لا يكون إلا ملكا المشار إليه بقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم الذي بنوا عليه ما بنوا فهو متعلق بذلك وقدم عليه جواب قولهم: فَلْيَأْتِنا لأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، وقوله تعالى: نُوحِي إِلَيْهِمْ استئناف مبين لكيفية الإرسال، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه، والمعنى ما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا لا ملائكة نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقيقة مدلوله كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وإن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم فيقولون ما يقولون، وقال بعض الأفاضل: إن الجملة في محل النصب صفة مادحة لرجالا وهو الذي يقتضيه النظم الجليل، وقرأ الجمهور «يوحى إليهم» بالياء على صيغة المبني للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل، وقوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة، وأما الوقوف عليها بالسؤال من الغير فهو من وظائف العوام وأمره صلّى الله عليه وسلّم بالسؤال في بعض الآيات ليس للوقوف وتحصيل العلم بالمسئول عنه لأمر آخر، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وأهل الذكر أهل الكتاب كما روي عن الحسن وقتادة وغيرهما، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام لتزول شبهتكم. أمروا بذلك لأن أخبار الجم الغفير يفيد العلم في مثل ذلك لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته صلّى الله عليه وسلّم ويشاورونهم في أمره عليه الصلاة والسلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، وعن ابن زيد أن أهل الذكر هم أهل القرآن، ورده ابن عطية بأنهم كانوا خصومهم فكيف يؤمرون بسؤالهم، ويرد ذلك على ما زعمته الإمامية من أنهم آله صلّى الله عليه وسلّم وقد تقدم الكلام في ذلك.
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً بيان لكون الرسل عليهم السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك، وقال الراغب: هو كالجسم إلا أنه أخص منه، قال الخليل:
لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين له لون