فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان عليه السلام فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص أطلع عليه سليمان دون داود، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى.
وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام يُسَبِّحْنَ يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمعه الناس، وكان عند الأكثرين يقول: سبحان الله تعالى، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام، وقيل: يسمعه كل أحد وقيل: بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدى () فليس بشيء أصلا ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال، وقيل: يُسَبِّحْنَ بمعنى يسرن من السباحة. وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى أو خبر سير الجبال معه عليه السلام.
وقيل: إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى.
وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه، والجملة في موضع الحال من الْجِبالَ أو استئناف مبين لكيفية التسخير ومَعَ متعلقة بالتسخير، وقال أبو البقاء: يسبحن وهو نظير قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدى وَالطَّيْرَ عطف على الْجِبالَ أو مفعول معه، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال. وقرىء «والطير» بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات، وقيل: على العطف على الضمير في يُسَبِّحْنَ ومثله جائز عند الكوفيين، وقوله تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:
البس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها
وقيل: هو اسم للسلاح كله درعا كان أو غيره، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحا:
قال قتادة: كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع، وقرىء «لبوس» بضم اللام لَكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة.
وقوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من لَكُمْ بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص