وإبريسم فرسخا في فرسخ ووضعت له منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح.
وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: كان لسليمان عليه السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود، وقيل في وجه الجمع إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك.
وذكر عن الحسن أن إكرام الله تعالى لسليمان عليه السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيرا منها من حيث السرعة مع الراحة، ومن العجب أن أهل لندن قد أتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاؤوا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغترارا بما ظهر منذ سنوات من عمل سفينة تجري في الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها فلم يتم لهم ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاؤوا بل إلى حيث ألقت رحلها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ فما أعطيناه ما أعطيناه إلا لما نعلمه من الحكمة وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فمن في موضع نصب لسخرنا، وجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء وخبره ما قبله، وهي على الوجهين على ما استظهره أبو حيان موصولة وعلى ما اختاره جمع نكرة موصوفة، ووجه اختيار ذلك على الموصولية أنه لا عهد هنا، وكون الموصول قد يكون للعهد الذهني خلاف الظاهر، وجيء بضمير الجمع نظرا للمعنى، وحسنه تقدم جمع قبله، والغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه، ولما كان الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره قيل: لَهُ للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه السلام.
وقد كان عليه السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه وَيَعْمَلُونَ له عَمَلًا كثيرا دُونَ ذلِكَ أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ: ١٣] الآية، قيل: إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم، وذكر ذلك الإمام الرازي في التفسير، لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافا. ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر. وقيل: من صناعة بقراط وجالينوس انتهى. وقيل: هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك، وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم، ثم هؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة مِنَ كأنه قيل: ومن يعملون، والشياطين أجسام لطيفة نارية عاقلة، وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نظير قلع الهواء الأجسام الثقيلة، وقال الجبائي:
إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام فلما توفي ردّهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي إبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط عن درجة القبول كما لا يخفى.
والظاهر أن المسخرين كانوا كفارا لأن لفظ الشياطين أكثر إطلاقا عليهم، وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا، وقال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار، وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحدا والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم