وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
«والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.
وَالْحِكْمَةَ أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة- للكتاب- أو- الكتاب- نفسه، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون- تعليم الكتاب- عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الْحِكْمَةَ الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الْحِكْمَةَ النظرية والعملية، قالوا:
وبينها وبين ما في الْكِتابَ عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس- علما وعملا- غير مذكور في الْكِتابَ وأنت تعلم أنت هذا القول بعد سماع قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: ٣٨] وقوله تعالى سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] مما لا ينبغي الاقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في الْكِتابَ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية- ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته- والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهارتهم أو يشهد لهم- بالتزكية والعدالة- بعيد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل الْعَزِيزُ هنا على من لا مثل له- كما قاله ابن عباس- أو المنتقم- كما قاله الكلبي- والْحَكِيمُ على العالم- كما قيل- لا يخلو عن بعد.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء- من يرغب عن ملته- وهي الحق الواضح غاية الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل- السفه- الخفة، ومنه زمام سفيه- أي خفيف- وسفه- بالكسر- كما قال المبرد. وثعلب: متعد بنفسه، ونَفْسَهُ مفعول به، وأما سَفِهَ بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء
في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس»
وقيل: إنه لازم أيضا، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو أهلكها، وهو قول أبي عبيدة وقيل: إن النصب بنزع الخافض- أي في نفسه- فلا ينافي اللزوم- وهو قول لبعض البصريين- وقيل: على التمييز كما في قول النابغة الذبياني:
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام
وقيل: على التشبيه بالمفعول به، واعترض الجميع أبو حيان قائلا: إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان. وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة- كما قيل به في البيت- وإن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي. ومَنْ إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يَرْغَبُ لأنه استثناء من غير موجب، وسبب نزول الآية ما
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة، واجتبيناه من بين سائر الخلق، وأصله اتخاذ