فتأمل، ثم إن المواصلات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام، وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون إلخ، وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو في غاية البعد.
وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين أُولئِكَ إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى:
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: ١٤٨] وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: ١٢٢] فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماء إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: ١٣٣] وَهُمْ لَها أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: سابِقُونَ وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال: سبقت إلى كذا ولكذا، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها.
وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة، وحسن زيادتها كون العامل فرعيا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يرد ما قيل: إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال: هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف.
وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير لَها لها أيضا واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون لَها خبر المبتدأ وسابِقُونَ خبر بعد خبر، ومعنى هُمْ لَها أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، وهذا كقولك: لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره: أنت لها وهو من بليغ كلامهم، وعلى ذلك قوله:
مشكلات أعضلت ودهت ... يا رسول الله أنت لها
ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل لَها خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات، ففي البحر نقلا عنه أن المعنى