سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة، ومن الناس من زعم أن ضمير لَها للجنة. ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» مضارع أسرع يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و «يسارعون» كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فنقتفي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
وقوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف بهو كما في قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٩] و (الحق) المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقيل: المراد بالكتاب صحائف يقرؤونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول، وأدون منه ما قيل: إن المراد به القرآن الكريم، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لبيان فضله عز وجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق، وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها.
وقوله عز وجل: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبىء عنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إلخ، وقيل: الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقا وروي ذلك عن مجاهد، وقيل:
إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة، وقيل: إلى الدين بجملته، وقيل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والأول أظهر وَلَهُمْ أَعْمالٌ سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفرة والشك وأن ذلِكَ إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى لهم أعمال دون الكفر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن ذلِكَ كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون