وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه- بجعلناكم- وجيء بما يدل على البعد تفخيما. والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، وأصل التقدير- جعلناكم أمة وسطا- جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر، وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا، وقد ذكرنا قبل أن كَذلِكَ كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك- هذا الثوب كهذا الثوب- في كونه خزا أو بزا، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده، ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة، وهذا معنى قولهم: إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي، ومن الناس من جعل كَذلِكَ للتشبيه- بجعل- مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل- جعلناكم أمة وسطا- ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا، والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل واحد القبلتين في وقته- صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل- كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا- إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى. ومعنى وَسَطاً خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه- كالمركز- ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الجربزة والبلادة، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم: خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم- على الذم أثقل من مغن وسط- لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك، وقولهم: أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي، ولما كان علم العباد لم يحط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك- وسموه عدالة- في إحياء الحقوق فليحفظ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية- على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لا نثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار
فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ- لا يخلو عن شيء، أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطئ مأجور، وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وَسَطاً بالنسبة إلى سائر الأمم، وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد، وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة، وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد