اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك، وأجيب عن الأول، والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا، وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة- لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم- ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع.
وعن الرابع بأن جَعَلْناكُمْ يقتضي تحقق العدالة بالفعل، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر.
وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرين- أعني الصحابة كما هو أصله- فيدل على حجية الإجماع في الجملة، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل، على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الاثني عشر،
ورووا عن الباقر أنه قال: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه: نحن الذين قال الله تعالى فيهم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
وقالوا: قول كل واحد من أولئك حجة فضلا عن إجماعهم، وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية- للجعل- المذكور مترتبة عليه.
أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال:«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وفي رواية «فيؤتى بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم»
وذلك قوله عز وجل: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وكلمة الاستعلاء لما في- الشهيد- من معنى الرقيب، أو لمشاكلة ما قبله، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني اختصاصهم- بكون الرسول شهيدا عليهم- وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ويزكيكم ويعلم بعدالتكم، والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها وهي صخرة بيت المقدس، بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة- بل يجعلها بينه وبينه- والَّتِي مفعول ثان- لجعل- لا صفة الْقِبْلَةَ والمفعول الثاني محذوف أي الْقِبْلَةَ كما قيل. وقال أبو حيان: إن- الجعل- تحويل الشيء من حالة إلى أخرى، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، كما في- جعلت الطين خزفا- فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول، والثاني هو الْقِبْلَةَ وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما ذكرنا لأن الْقِبْلَةَ عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة- وهو كلي- والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها،- فالجعل- المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا، ولا شك أن الكلي يصير جزئيا- كالحيوان يصير إنسانا- دون العكس،