والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة- كما هو الآن- وَما جَعَلْنَا قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء إِلَّا لِنَعْلَمَ أي في ذلك الزمان مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ أي يتبعك في الصلاة إليها، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع.
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه، ومَنْ هذه للفصل كالتي في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: ٢٢٠] والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع، وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على أسوأ حال. و «نعلم» حكاية حال ماضية، ويَتَّبِعُ ويَنْقَلِبُ بمعنى الحدوث- والجعل- مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال الكعبة أو المعنى (ما جعلنا) قبلتك بيت المقدس إِلَّا لِنَعْلَمَ الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ مِمَّنْ لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت الْقِبْلَةَ فنعلم على حقيقة الحال. والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارض- وهو امتحان الناس- إما في وقت- الجعل- أو في وقت التحويل، وما كان لعارض يزول بزواله، وقيل: المراد ب الْقِبْلَةَ الكعبة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة، والمعنى ما رددناك إِلَّا لِنَعْلَمَ الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه، وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول- والجعل- على هذا حقيقة، ويَتَّبِعُ للاستمرار بقرينة مقابله، ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ الْقِبْلَةَ مرتين، واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث- العلم- في المستقبل- وهو تعالى لم يزل عالما- وأجيب بوجوه «الأول» أن ذلك على سبيل التمثيل، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم «الثاني» أن المراد- العلم- الحالي الذي يدور عليه- فلك الجزاء- أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل، فالعلم مقيد بالحادث، والحدوث راجع إلى القيد «الثالث» أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص فهو كقول الملك: فتحنا البلد، وإنما فتحها جنده «الرابع» أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج، وتجوز بإطلاق اسم السبب على المسبب، ويؤيده تعديه ب مَنْ كالتمييز- وبه فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ويشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه- العلم- وظاهر أنه فرع تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد «الخامس» أن المراد به الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم «السادس» أن «نعلم» للمتكلم مع الغير، فالمراد ليشترك- العلم- بيني وبين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه، مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز- فمن، وممن- مفعولاه بواسطة وبلا واسطة، وإن كان حقيقة فإمّا أن يكون من الإدراك المعدى إلى مفعول واحد- فمن- موصولة في موضع نصب به، ومِمَّنْ حال أي متميزا مِمَّنْ أو من- العلم- المعدى إلى مفعولين ف مَنْ استفهامية في موضع المبتدأ، ويَتَّبِعُ في موضع الخبر، والجملة في موضع المفعولين مِمَّنْ يَنْقَلِبُ حال من فاعل يَتَّبِعُ وبهذا يندفع قول أبي البقاء: إنه لا يجوز أن تكون مَنْ استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، ولا معنى لتعلقه ب يَتَّبِعُ والكلام دال على هذا التقدير- فلا يرد أنه لا قرينة عليه- ثم إن جملة وَما جَعَلْنَا إلخ، معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل، وقيل: معطوفة على لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ويحتاج إلى أن يقال حينئذ: إنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور بأداء مضمون