هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، وفيه بعد ما كما لا يخفى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي شاقة ثقيلة، والضمير لما دل عليه قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ من الجعلة، أو التولية، أو الردة، أو التحويلة، أو الصيرورة، أو المتابعة، أو القبلة، وفائدة اعتبار التأنيث- على بعض الوجوه- الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة، واختصاصه بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا، والقول بأن تأنيث «كبيرة» يجعله صفة حادثة، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلى- الجعل- أو الرد أو التحويل بدون
تكلف تكلف عريّ عن الفائدة وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط «كان» - واللام- هي الفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن إِنْ هي النافية- واللام- بمعنى إلا، وقال البصريون: لو كان كذلك لجاز أن يقال: جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا- وليس فليس- وقرىء لَكَبِيرَةً بالرفع ففي «كان» ضمير القصة، و «كبيرة» خبر مبتدأ محذوف، أي لهي «كبيرة» والجملة خبر «كان» وقيل: إن كانت زائدة كما في قوله: وإخوان لنا كانوا كرام واعترض بأنه إن أريد أن «كان» مع اسمها زائدة كانت «كبيرة» بلا مبتدأ وَإِنْ المخففة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس، وإن أريد أن «كان» وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء- فلا وجه لاتصاله واستتاره- وأجيب بأنه لما وقع بعد «كان» وكان من جهة المعنى في موقع اسم «كان» جعل مستترا تشبيها بالاسم، وإن كان مبتدأ تحقيقا، ولا يخفى أنه من التكلف غايته، ومن التعسف نهايته إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا، والمراد بهم مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القبلة قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فنزلت، فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين- فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم- وقيل: المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة- واللام- في لِيُضِيعَ متعلقة بخبر كانَ المحذوف- كما هو رأي البصريين- وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا- لأن يضيع- وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه، وقال الكوفيون: اللام زائدة وهي الناصبة للفعل، ولِيُضِيعَ هو الخبر، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية لِيُضِيعَ بأن- اللام لام الجر- وَإِنْ بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان الله إضاعة إيمانكم- فيحوج للتأويل- لكن أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تذييل لجميع ما تقدم، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم- والباء- متعلقة ب لَرَؤُفٌ وقدم على رَحِيمٌ لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:
٢] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما- والرحمة- أعم منه، ومن الإفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع، وقول القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل تقديم- الرؤوف- مع أنه أبلغ- محافظة على الفواصل- ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع- فالمراعاة حاصلة على كل حال- ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد: ٢٧] في