الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلي سبحانه شأنه ويقوي بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجل والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين.
وقيل: المعنى ليجعله مقررا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون، وأصل التمكين جعل الشيء مكانا لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى، وفيه بحث. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى: الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه لَيُبَدِّلَنَّهُمْ بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ولَيُمَكِّنَنَّ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ بمقتضى البشرية في الدنيا من أعدائهم في الدين أَمْناً لا يقادر قدره، وقيل: الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول.
وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل.
يَعْبُدُونَنِي جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من الَّذِينَ الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أو في لَيُبَدِّلَنَّهُمْ وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد، وقوله تعالى: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الواو في يَعْبُدُونَنِي أو من الَّذِينَ أو بدل من الحال أو استئناف. ونصب شَيْئاً على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك. ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد بن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً لا يخافون أحدا غيري، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه. ولعلهما أرادا بذلك تفسير لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وكأنهما عدا خوف غير الله نوعا من الإشراك، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل: يعبدونني غير خائفين أحدا غيري، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ إلخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة يَعْبُدُونَنِي إلخ استئناف لبيان ما يصلون إليه في الأمن كأنه قيل: يأمنون إليّ حيث لا يخافون أحدا غير الله تعالى ولا يخفى ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة.
وَمَنْ كَفَرَ أي ومن ارتد من المؤمنين بَعْدَ ذلِكَ أي بعد حصول الموعود به فَأُولئِكَ المرتدون البعداء عن الحق هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ