وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم، فعن عكرمة كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من البيوت الذي ذكر الله تعالى، وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأجل أنه ليس ثم رب البيت، والحرج لغة كما قال الزجاج الضيق من الحرجة وهو الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه، وقال الراغب: هو في الأصل مجتمع الشيء ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم، والمعنى على الرواية الأولى ليس على هؤلاء حرج في أكلهم مع الأصحاء، ويقدر على سائر الروايات ما يناسب ذلك مما لا يخفى، وعَلَى على معناها في جميع ذلك، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] تحرج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأغدار لمكان جولان يد الأعمى وانبساط جلسة الأعرج وعدم خلو المريض من رائحة تؤذي أو جرح ينض أو أنف يذن فنزلت. ومن ذهب إلى هذا جعل عَلَى بمعنى في أي ليس في مؤاكلة الأعمى حرج وهكذا وإلا لكان حق التركيب ليس عليكم أن تأكلوا مع الأعمى حرج وكذا يقال فيما بعد وفيه بعد لا يخفى، وقيل: لا حاجة إلى أن يقدر محذوف بعد قوله تعالى: حَرَجٌ حسبما أشير إليه إذ المعنى ليس على الطوائف المعدودة وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ حرج أَنْ تَأْكُلُوا أنتم وهم معكم مِنْ بُيُوتِكُمْ إلخ، وإلى كون المعنى كذلك ذهب مولانا شيخ الإسلام ثم قال: وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما ولعل ما تقدم أولى، وأما تعميم الخطاب فلا أقول به أصلا، وعن ابن زيد والحسن وذهب إليه الجبائي وقال أبو حيان: هو القول الظاهر أن الحرج المنفي عن أهل العذر هو الحرج في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه والحرج المنفي عمن بعدهم الحرج في الأكل من البيوت المذكورة، قال صاحب الكشاف: والكلام عليه صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منفي عنه الحرج، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر وهو تحقيق لأمر العطف وذلك أنه لما كان فيه غرابة لبعد الجامع بادىء النظر ازاله بأن الغرض لما كان بيان الحكم كفاء الحوادث والحادثتان وإن تباينتا كل التباين إذا تقارنتا في الوقوع والاحتياج إلى البيان قرب الجامع بينهما ولا كذلك إذا كان الكلام في غير معرض الإفتاء والبيان، وليس هذا القول منه بناء على أن الاكتفاء في تصور ما كاف في الجامعية كما ظن، وبهذا يظهر الجواب عما اعترض به على هذه الرواية من أن الكلام عليها لا يلائم ما قبله ولا ما بعده لأن ملاءمته لما بعده قد عرفت وجهها، وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة إذ لم يعطف عليه، وربما يقال في وجه ذكر نفي الحرج عن أهل العذر بترك الجهاد وما يشبهه مما رخص لهم فيه أثناء بيان الاستئذان ونحوه: إن نفي الحرج عنهم بذلك مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه صلّى الله عليه وسلم لترك ذلك
فلهم القعود عن الجهاد ونحوه من غير استئذان ولا إذن كما أن للماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهل البيت، ومثل هذا يكفي وجها في توسيط جملة أثناء جمل ظاهرة التناسب، ويرد عليه شيء عسى أن يدفع بالتأمل، وإنما لم يذكر الحرج في قوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن يقال: ولا على أنفسكم حرج اكتفاء بذكره فيما مر والأواخر محل الحذف، ولم يكتف بحرج واحد بأن يقال: ليس على الأعمى والأعرج والمريض وأنفسكم حرج أن تأكلوا دفعا لتوهم خلاف المراد، وقيل حذف الحرج آخرا للإشارة إلى مغايرته للمذكور ولا تقدح في دلالته عليه لا سيما إذا قلنا: إن الدال غير منحصر فيه وهو كما ترى، ومعنى عَلى أَنْفُسِكُمْ كما في الكشاف عليكم وعلى من في مثل حالكم من