صاد الصديق وكاف الكيمياء معا ... لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا
ونقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه، وقيل: إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الاثنينية ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق لأنه أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من ذوي القرابة روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: ١٠٠، ١٠١] .
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ،
وقيل لأفلاطون: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي، وقد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبا.
يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك، وهذا شيء قد كان.
«إذا الناس ناس والزمان زمان» وأما اليوم فقد طوي فيما أعلم بساطه واضمحل والأمر لله تعالى فسطاطه وعفت آثاره وأفلت أقماره وصار الصديق اسما للعدو الذي يخفي عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغارته فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
ثم إن نفي الحرج في الأكل المذكور مشروط بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، ولا يرد أنه إذا وجد الرضا جاز الأكل من مال الأجنبي والعدو أيضا فلا يكون للتخصيص وجه لأن تخصيص هؤلاء لاعتياد التبسط بينهم فلا مفهوم له، وقال أبو مسلم: هذا في الأرقاب الكفرة أباح سبحانه في هذه الآية ما حظره في قوله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢] وليس بشيء، وقيل:
كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه»
، وقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: ٢٧] الآية، وقوله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] فإنهم إذا منعوا من منزله صلّى الله عليه وسلم إلا بالشرط المذكور وهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأقلهم حجابا فغيره صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم بالطريق الأولى.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى القول بالنسخ بناء على ما قلنا أولا، واحتج بالآية بعض أئمة الحنفية على أنه لا قطع بسرقة مال المحارم مطلقا لا فرق في ذلك بين الوالدين والمولودين وبين غيرهم لأنها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم فلا يكون مالهم محرزا ومجرد احتمال إرادة الظاهر وعدم النسخ كاف في الشبهة المدرئة للحد، وبحث فيه بأن درء الحدود بالشبهات ليس على إطلاقه عندهم كما يعلم من أصولهم، وأورد عليه أيضا أنه يستلزم أن لا تقطع يد من سرق من الصديق، وأجيب عن هذا بأن الصديق متى قصد سرقة مال صديقه انقلب عدوا، وتعقب بأن الشرع ناظر إلى الظاهر لا إلى السرائر، وقرىء «صديقكم» بكسر الصاد اتباعا لحركة الدال حكى ذلك حميد الخزاز لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أي مجتمعين وهو نصب على الحال من فاعل تَأْكُلُوا وهو في الأصل