يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثني شيء آخر، ولا محيص للتفصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ [الشورى: ١٥] فأمر الاستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى، وقيل: الاستثناء منقطع، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ... «يلام» بنسيان الأحبة والوطن
وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ألا» بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء، والَّذِينَ مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ والفاء زائدة فيه للتأكيد، وقيل: لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير، والمشهور أن- الخشية- مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد.
وَاخْشَوْنِي أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل شيء، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ كأنه قيل: فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم- إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه- كلا فصل- إذ هو من متعلق العلة الأولى، نعم اعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية- والخشية- لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم- والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة، أو عطف على علة مقدرة مثل وَاخْشَوْنِي لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد. والترمذي من حديث معاذ بن جبل «تمام النعمة دخول الجنة» ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى- فاعبدوا، وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة- والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق «فإن قيل» إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: ٣] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر.
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متصل بما قبله، فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، والتقدير- لأتم نعمتي عليكم- في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إتمام إرسال الرسول، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب، وفِيكُمْ متعلق- بأرسلنا- وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول، وقيل: متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم بالإرسال، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق باذكروني، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا