وحكي هذا عن الأكثرين وفيه أنه خلاف المحسوس فإن الأنهار العظيمة كدجلة وما ينضم إليها والنيل وغيرهما مما يشاهده الناس إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضا ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفا كما أخبر به مبلغ التواتر ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح، وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلا، ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل الآية في بحرين في الأرض كذلك لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى، ولا أرى وجها لتفسير الآية بما ذكر والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لا كدورة فيه عند المنصف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين وقيل: المراد بالبرزخ الواسطة أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطا ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مزاجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضا مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه: وَحِجْراً مَحْجُوراً فيما عدا ذلك وهو ما لم يتأثر بصاحبه منهما بل يبقى على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة وهو كما ترى، وحكي في البحر أن المراد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس.
وذكره في الدر المنثور عن الحسن برواية ابن أبي حاتم وهو من العجب العجاب لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح إرادتهما هنا مع قوله تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ نعم قد يصح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى من آية سورة [الرحمن: ١٩، ٢٠] أعني قوله سبحانه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ لعدم ذكر ما يمنعه هناك، وما روي عن الحسن إن صح فلعله في تلك الآية، ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض وذكر مثله في البحر عن ابن عباس وأنهما يلتقيان كل عام، وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت وإن كان مناسبة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر وأما أنت فبالخيار والله تعالى ولي التوفيق.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً هو الماء الذي خمر به طينة آدم عليه السلام وجعله جزءا من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتستعد لقبول الأشكال والهيئات، فالمراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس والمراد بالبشر آدم عليه السلام وتنوينه للتعظيم أو جنس البشر الصادق عليه عليه السلام وعلى ذريته، ومن ابتدائية، ويجوز أن يراد بالماء النطفة وحينئذ يتعين حمل البشر على أولاد آدم عليه السلام.
فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن فهو كقوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: ٣٩] فالواو للتقسيم والكلام على تقدير مضاف حذف ليدل على المبالغة ظاهرا وعدل عن ذكر وأنثى ليؤذن بالانشعاب نصا، وهذا الجعل والتقسيم مما لا خفاء فيه على تقدير أن يراد بالبشر الجنس، وأما على تقدير أن يراد به آدم عليه السلام فقيل: هو باعتبار الجنس وفي الكلام ما هو من قبيل الاستخدام نظير ما في قولك: عندي درهم ونصفه، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار ذلك والكلام من باب الحذف والإيصال، أي جعل منه وقد جيء به على الأصل في نظير هذه الآية وهو ما سمعته آنفا، وقيل: معنى جعل آدم نسبا وصهرا خلق حواء منه وإبقاؤه على ما كان عليه من الذكورة.